فرصة أخيرة؟ هل ينقذ الحوار الوطني الثورة التونسية؟

Choukri Hmed

شكري حمد *

هل يكون «الحوار الوطني» في تونس، الذي انطلق أخيراً على خلفية التهديد الإرهابي، والهجمات المسلحة، وأخطاء الشرطة معاً، «الفرصة الأخيرة» للانتقال الديمقراطي في هذا البلد؟ هل يمكن تونس أن تتجنب، بعكس ما هو عليه الحال في جميع بلدان «الربيع العربي» الأخرى، وفي مقدمتها مصر، إعادة إرساء الاستبداد وإغلاق الميدان السياسي والحدّ من الحريات؟ هذا ليس مؤكدا البتة. لكن الأسباب وراء الشك ليست بالضرورة تلك التي نفترضها أو نميل إلى تصديقها. فرغم أن المجموعات الثورية، بمساعدة بعض الأحزاب و«الاتحاد العام التونسي للشغل» شديد النفوذ، نجحت في شباط / فبراير 2011 في فرض انتخاب مجلس وطني تأسيسي، مع استبعاد قاطع لعودة الحزب /الدولة الحاكم سابقاً ألا وهو التجمّع الدستوري الديمقراطي، ورغم أن غالبية الناخبين اختاروا تحالفاً ينتمي إلى يمين الوسط بلون إسلامي، رغم كل ذلك، يُحتمل أن تُسقط هيئة «الحوار الوطني» هذه الخيارات التي تُعتبَر عامة مقدسة في الديمقراطية.

السباق نحو الشرعية
بحسب مؤسسي «الحوار الوطني» والمشاركين فيه (وبعضهم مرغم ومجبر عليه) الذي انطلق في 24 تشرين الأول/أكتوبر بعد شهرين ونصف الشهر من المراوغات، ، فإنّ ذلك «الحوار» سيكون فعلاً «الفرصة الأخيرة» لتونس ما بعد ثورة 14 كانون الثاني/يناير 2011. ذلك أن «الترويكا» الحاكمة التي تتألف من «حزب النهضة» الإسلامي و«المؤتمر من أجل الجمهورية» و«حزب التكتل من أجل العمل والحريات»، إلى جانب المجلس الوطني التأسيسي، أثبتا قدراً كبيراً من انعدام الكفاءة؛ إذ ومنذ عامين، لم يُنجَز أمر واحد، أو يكاد: لا تزال نسبة البطالة مرتفعة جداً (تطال رسمياً 15.9 في المئة من القوى العاملة)، والتضخم لا يتوقف عن الازدياد (6 في المئة في 2013)، بينما ينخر الفساد الإدارة، ويبقى الاقتصاد على عتبة الافلاس (بلغت نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي 3.2 في المئة للفصلين الأولين من العام 2013)، والدستور في نقطة الصفر. وأسوأ من كل ذلك، أن حدة التهديدات لم تصل يوماً إلى مستواها الحالي، سواء كان على مستوى الحريات أو على مستوى أمن التونسيين. باختصار، فإن ظلّت البلاد سائرة على الدرب الحالي، فإن الهاوية تترصد الوطن. وفي الظروف القائمة، تبدو اللعنة وكأنها تطبع جميع المؤسسات التي أُنشئت في أعقاب «اليوم الملعون» للانتخابات التأسيسية في 23 تشـرين الأول / أكتوبر2011. ويجدر بالتالي، بحسب معارضي حزب «النهضة» وحلفاءه، الانتهاء من «الخطيئة الأصلية» التي تجسّدت في الانتخابات المذكورة، أي ذلك الخطأ الأول المتمثل بـ«الخيار السيئ» الذي اتخذه التونسيون في تلك الانتخابات.
ليس هناك أدنى شكّ بالنسبة للمعارضة البرلمانية، وتلك غير الممثلة في البرلمان أيضاً، التي يقودها حزب «نداء تونس» (وهو تشكيلة من شخصيات أغلبهم مسؤولون سابقون في «النظام البائد»، انضمّت إليهما في الفترة الأخيرة «الجبهة الشعبية» اليسارية المتطرّفة)، بأنّ الوسيلة الفضلى لتأمين الانتقال الديمقراطي هي فرض ساحة حوارية وتقريرية تنبثق من خارج المؤسسات الشرعية. وهنا بالتحديد يكمن دور «الحوار الوطني». فهو يوفر حضور قوى برلمانية يُفترض بأن شرعيتها لم تعد معترفاً بها من الشعب (إذ استهلكت ولايتها القانونية المحدّدة بعام واحد)، و«رباعي راعي للحوار» مؤلف بشكل رئيسي من قوى غير ممثلة في البرلمان، وتحوز على هالة توفرها لها الأدوار التي لعبتها في تاريخ تونس: «الاتحاد العام التونسي للشغل» صاحب النفوذ، ثمّ «الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية» (وهو اتحاد لأرباب العمل) الذي لا يقل عن الاتحاد العام نفوذاً، إلى جانب منظمات من المجتمع المدني (كالهيئة الوطنية للمحامين، و«الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان»)، فضلاً عن 22 حزبا سياسيا خسروا في انتخابات 2011، وهم بمعظمهم من ورثة النظام السابق (من أنصار الحبيب بورقيبة وكذلك زين العابدين بن علي)، متحالفين مع مجموعات من اليسار المتطرف (الجبهة الشعبية) والوسط (الحزب الجمهوري وحزب المسار الديمقراطي). ومن خلال استبدال المؤسسات المنبثقة من الاقتراع الشعبي بأخرى غير منتخَبة، ومكلّفة بوضع الأولى تحت «الوصاية» (وهو المصطلح الذي استخدمه الخبير الدستوري عياض بن عاشور في إحدى مقالاته) فإننا نكون بصدد استبدال شكل من أشكال الشرعية المفترض بأنها أكثر قوة وعدلاً، بأخرى. وحتى حين يؤكد الأمين العام لـ«الاتحاد العام التونسي للشغل» والمتحدث باسم «الحوار الوطني» حسين العباسي، انّ المطروح ليس إلغاء الشرعية الانتخابية بل «إسنادها بشرعية ثانية» (خلال سجال تلفزيوني على «القناة الوطنية الأولى» في 28 تشرين الأول/أكتوبر الماضي)، تبقى النتيجة هي نفسها في الجوهر: إبطال خيار ديمقراطي خارج آليات هي نفسها ديمقراطية.

مسؤولية جماعية
بعكس رأي عام منتشر ــ هو منتشر لأنه معمَّم على نطاق واسع من صحافيين كان جزء كبير منهم حتى الأمس القريب يعمل لحساب نظام بن علي ــ فإنّ إخفاقات الغالبية البرلمانية والحكومية ليست محصورة بهذه الغالبية فحسب، بغضّ النظر عن أخطائها وانعدام كفاءاتها وتناقضاتها التي يجب الاعتراف بها. فالفشل، إن صحّ التعبير، جماعي، وتتحمل مسؤوليته أيضاً «المعارضة» التي تسرع في إيجاد مجالات توافق مع جلّاديها السابقين (من خلال البحث عن «التقاطعات الميدانية» بحسب تعبير زعيم الجبهة الشعبية اليسارية حمّة الهمامي)، أكثر من اهتمامها بقيادة مرحلة انتقالية بطريقة مسؤولة. فمنذ العام 2011، نشهد تركيزاً إعلامياً وتوتراً دراميا على صراع محموم بين معسكرَين سياسيّين يتم تصويرهما على أنهما غير قابلين للتصالح وللتحاور. وبالرغم من إيجاد توافقات حول هذه المسألة أو تلك، وهو ما أثبته مشروع الدستور الجديد الذي أُعلن عنه رسمياً في الأول من حزيران/يونيو 2013، وعُرض للنقاش قبل أن يقره المجلس التأسيسي، فإنّ مصادر النزاعات وأسبابها تتكاثر وتتفاقم يوماً بعد يوم. وقد تقابل في «ساحة باردو» مؤخرا، القريبة من مقر المجلس التأسيسي، معسكران سمتهما القطعية والتطرّف. فطيلة شهر، احتل كل منهما ركنا من الساحة واعتصم فيه: من جهة، الجبهة المعارضة التي تدعو إلى “رحيل” المجلس التأسيسي وجميع المؤسسات القانونية المنبثقة عنه. ومن جهة ثانية، أنصار «الشرعيّة» المتشبّثين بموقفهم، غير العابئين بالانتقادات التي تزداد حدّة من قبل جزء من المواطنين إزاءهم.

الهاجس الأمني
في هذا الظرف المأزوم والمتردي، تبلور تدريجياً هاجس أمني قوي، على خلفيةِ تدخلاتٍ دوليةٍ أخذت طابعاً علنياً متعاظماً مع مرور الوقت، ومناخٍ من تراجع مرتبة تونس على مستوى وكالات التصنيف. فمنذ الهجوم على السفارة الأميركية في 14 أيلول/سبتمبر 2012 (4 قتلى من بين المهاجِمين)، والاغتيالات السياسية التي شهدتها سنتي 2012 (لطفي نقّض في 18 تشرين الأول/أكتوبر) و2013 (شكري بلعيد في السادس من شباط / فبراير ومحمد البراهمي في 25 تموز/ يوليو)، والهجمات الإرهابية العديدة التي باتت تستهدف بشكل دائم الجيش والشرطة وقوات حفظ الأمن (مثلما حصل في جبل الشعامبي في صيف 2013، أو الهجمات الأحدث في سيدي علي بن عون قرب سيدي بو زيد)، ظهر أنّ وزارة الداخلية هي أكثر من أي وقت مضى «دولة داخل الدولة». فبعد فرار بن علي والتفكيك الجزئي لجماعاته الحاكمة، تعزّزت استقلالية هذه «القلعة» (وزارة الداخلية) بشكل خطير، لدرجة أنّ التحدّي الأمني يكاد اليوم يفرض نفسه بشكل «طبيعي» على المسؤولين السياسيين، الذين يضحك بعضهم في سرّه بينما يعترف الآخرون بعجزهم. لا يجب التقليل من حجم هذا الهاجس الأمني السائد منذ تدعيم سطوة نظام بن علي في 1989، والذي ظهر بوضوح بعد هروبه في 2011. ففي ظل ضغط نقابات الشرطة التي بُعثَت مباشرة بعد الثورة خصوصاً، يسمح هذا الهاجس أولاً بتحويل جلادي الأمس، أي ضباط الأمن الوطني، إلى أبطال حقيقيين، ومن خلال ذلك، بتناسي المسائل الملحّة التي تطرحها العدالة الانتقالية، والاصلاحات الضرورية في وزارتَي الداخلية والعدل، فضلاً عن الجيش. والهاجس الأمني، أو بالأحرى صناعته الإعلامية والسياسية وتصويره كتحدّ رئيسي، له أثر سياسي مباشر، يتجسد في تحميل مسؤولية الانتهاكات والاغتيالات والأخطاء إلى الحكومة الحالية، وإرغامها على القبول بالتحاور بشكل مستعجل وطارئ، بغاية دفعها إلى الاستقالة.

إبطال التمثيل؟
يحاول الحوار الوطني فرض «خريطة طريق» بسرعة ماراثونية وخياليّة حُدِّدَت بخمسة أسابيع، بحجة أن ذلك يسمح باستعادة الثقة في مؤسسات تمّ تجديدها. ولكن، وخلف ما يبدو من التعددية المتمظهرة بكثرة وتنوّع التنظيمات السياسية والنقابية والجماعات المشاركة وتنوّعها، فإنّ المواطنين يشهدون فعليا انسدادا في المجال السياسي. فمعظم النضالات السياسية، شأنها شأن مسألة شهداء الثورة وجرحاها، وعدد لا يُحصى من الصراعات الاجتماعية، تمسك بزمامها في الواقع مجموعات غير مستقرة، وشبكات غير منظمة وتنسيقيات وقتيّة. ولم تنجح تلك التنظيمات في فرض تلك التحديات الضخمة على النقاش العام، بينما هي تقع في قلب تعريف العقد الاجتماعي الجديد. أبعد من ذلك، فإنّ هيئة الحوار الوطني تمضي في إعادة تعريف رابط التمثيل السياسي، بمعنى بعيد عن المطالبات التي تبلورت في الأيام الأولى للثورة. وبهذا فهي تكرس واقعيا فشل المجلس التأسيسي في صوغ ما يمكن أن تكون عليه المصلحة العامة، وتعيد بالتالي إحياء جمرات النزعة المعادية للنسق البرلماني، المتوهّجة أصلاً، رغم أن هذا البلد كان قد بدأ لتوّه في اختبار هذا الشكل من الرابط السياسي.
في حال خلص الحوار الوطني إلى استقالة الحكومة الحالية، مثلما هو متوقّع رغم تعليقه الوقتي، واعتماد دستور جديد وتنظيم انتخابات حرة وشفافة، فيمكن لذلك أن يظهر على أنه الأقل سوءاً. لكن، وكما يُقال، يصعب على الشجرة حجب الغابة. فعلى الرغم من انعدام اليقين الذي لا يزال يخيّم على مآلاته، هناك خشية كبيرة من أن يتحوّل الحوار الوطني إلى مصادرة لحق التعبير الذي لا يزال حراً حتى الآن. وتحيلنا هذه المصادرة أولاً إلى مسؤولية النخب السياسية برمّتها، أو بالأحرى إلى عدم مسؤوليتها، وهي نخب تسعى جهدها لفرض نفسها كضامنة لمأسسة النزاع، ولإرساء نظام اجتماعي وسياسي سلمي. كما أنّها تحيل أيضاً، وربما هذا هو الأهم، إلى العجز الحالي للممسكين بزمام الشرعية الثورية، ولروابطها الهشة وغير المنظمة، عجزها عن التفلت من الاستيعاب ومن التوظيف السياسي. أخيراً، تشير هذه المصادرة إلى ضرورة إعادة ابتكار رابط التمثيل والمنظمات التمثيلية، وذلك في بلد لطالما عانى من نمط الحكم الأبوي، ومن الفساد، ومن الوصاية الدولية عليه، ومن دعوته للصمت… باختصار في بلد لطالما عانى من إنكار للديمقراطية.

* أستاذ العلوم السياسية في جامعة باريس دوفين، وباحث في المركز الوطني للأبحاث العلمية CNRS، من تونس.